سورة التوبة - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}.
التفسير:
المناسبة قريبة بين سورة التوبة، وسورة الأنفال قبلها.. بل إن بينهما لأكثر من وجه من الوجوه الجامعة بينهما على سبيل الوفاق، أو المقابلة.
فأولا: ختمت سورة الأنفال بالكشف عن الحدود الفاصلة بين المؤمنين وغير المؤمنين، بحيث وضح موقف كل منهما من الآخر.. فالمؤمنون بعضهم أولياء بعض، والكافرون بعضهم أولياء بعض.
وثانيا: بدئت سورة التوبة بهذا الإعلان العام الذي كان تطبيقا للأحكام التي تضمنتها الآيات الواردة في آخر الأنفال، من عزل المؤمنين عن الكافرين، حيث قضى هذا الإعلان ببراءة اللّه ورسوله من المشركين، ومن العهود المعقودة معهم.
وثالثا: كانت سورة الأنفال أول ما نزل من القرآن بالمدينة، على حين كانت التوبة آخر سورة نزلت من سورة القرآن بالمدينة أيضا! لهذا وغيره من المناسبات الجامعة بين السورتين، كان جمعهما على هذا النسق، فجاءت الأنفال، ثم جاءت بعدها التوبة، حتى لكأنهما سورة واحدة، الأمر الذي اقتضى عدم تصدير سورة التوبة بالبسملة، كما صدرت جميع سور القرآن.. هذا ما ذهب إليه كثير من العلماء في التعليللعدم تصدير التوبة بالبسملة.. وذهب آخرون في تعليل ذلك إلى أن سورة التوبة خطاب للكافرين والمشركين، وأنها إعلان حرب عليهم، ولا يناسب ذلك أن يصدّر الحديث إليهم باسم اللّه الرحمن الرحيم. وقد اعترض على هذا بأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بدأ كتبه إلى من دعاهم إلى الإسلام من المشركين والكافرين بالبسملة.
وردّ على هذا الاعتراض بأن الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه كان في كتبه إلى من كتب إليهم يدعو إلى الإسلام، والسلام، وإلى الخير والرحمة، فناسب أن يصدّر ذلك باسم اللّه الرحمن الرحيم.. وليس كذلك ما حملت براءة إلى الكافرين والمشركين، من نذر التهديد والوعيد.
وقيل. إن التوبة مكملة لسورة الأنفال، فهما سورة واحدة، كلتاهما نزلت في القتال، وتعدّان معا السابعة من الطّول (أي السبع الطوال)، والطّول سبع سور، هى البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف- ثم الأنفال والتوبة، وما بعدها المئون، أي ما اشتملت السورة منها على مئة آية أو نحوها.
وقوله تعالى: {بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
هو إعلان بقطع العلائق التي كانت تصل المؤمنين بالمشركين، من عهود ومواثيق.. وذلك لما أحدث المشركون من عبث بهذه العهود، واستخفاف بها، إذ أنهم كانوا لا يمسكون بها إلا إذا وجدوا في ذلك مصلحة محققة لهم، فإذا أمكنتهم الفرصة في المسلمين أنكروا هذه العهود، وألقوا بها كما تلقى نفايات الطعام بعد الشبع! وإذا كان أحد الطرفين المتعاقدين لا يوقّر ما تعاقد عليه، ولا ينزله من نفسه منزلة الاحترام والرعاية، ولا يستقيم عليه إلا إذا لم يكن له من ذلك مصلحة خاصة- كان ذلك العقد غبنا فاحشا على الطرف الآخر، الملتزم له، الحريص على الوفاء به، حيث تمكنه الفرصة في عدوّه فلا يهتبلها، على حين لو أمكنت الفرصة خصمه لم يلتزم العقد الذي بينهما.
فكان نقض هذه العهود القائمة بين المسلمين والمشركين وضعا للأمر في موضعه الصحيح، إذ هو إقرار لحقيقة واقعة، ونقض لعهود منقوضة من قبل أن يجفّ المداد الذي كتبت، ولا ينتظر المشركون لنقضها إلا الوقت المناسب، والفرصة السانحة.
وقد تولّى اللّه سبحانه وتعالى عن المسلمين نقض هذه العهود، وجعل سبحانه وتعالى ذلك إليه وإلى رسوله الكريم: {بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وذلك ليدفع عن المسلمين الحرج الذي ربما وجدوه في صدورهم لو أمروا بنقض هذه العهود.. وفى هذه ما فيه من لطف اللّه وإحسانه إلى المسلمين، ورعايته لهم، وبرّه بهم.
والبراءة من الشيء، والتبرؤ منه، هو مجافاته، وقطع الصلة به، واللّه سبحانه وتعالى، إنما يبرأ من المشركين، لأنهم برئوا منه.. ومعنى براءته سبحانه وتعالى منهم، طردهم من رحمته، وتركهم للأهواء والضلالات المتسلطة عليهم.. أما براءة رسول اللّه منهم، فهى قطع العلاقة التي كانت قائمة بينه وبينهم، بحكم العهود التي كانت معقودة بين النبىّ وبين المشركين.. فإذ قد برىء اللّه منهم، وطردهم من مواقع رحمته، فقد وجب على النبىّ أن يقطع كل صلة بهم.. إذ كانوا حربا على اللّه، وعلى دين اللّه، وعلى رسول اللّه، وعلى المؤمنين.
قوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ} هو إطلاق من اللّه سبحانه وتعالى للمشركين من تلك العهود التي عقدوها مع المؤمنين، وإرسال لهم في وجوه الأرض مدة أربعة أشهر، يتنقلون فيها حيث يشاءون، دون أن يعترضهم المسلمون، أو يلقوهم بأذى، إلا إذا بدءوهم ببغى أو عدوان.. وهذا هو السرّ في قوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ}.
: إذ لا تكون السياحة في الأرض إلا حيث الأمن.
والمشركون في هذه المدة التي أعطيت لهم، آمنون من كل عدوان.
وفى هذه الأشهر الأربعة فسحة للمشركين، يعدّون فيها أنفسهم للوضع الذي يتخيرونه، بعد انقضاء هذه المدة، فإما أن يدخلوا في الإسلام، وإما أن يدخلوا مع المسلمين في حرب وقتال.. وهى مدة كافية كلّ الكفاية لكى يقلّب فيها المشركون وجوه النظر، وليتخيّروا لأنفسهم أعدل المواقف التي ينتهى إليها تفكيرهم وتقديرهم.
وهذا وجه من وجوه الإسلام السمحة، وآية من آياته المشرقة في العدل والإحسان، حتى في مواقف المواجهة للعدو.. وفى ميدان الخصومة معه! وما كان لشريعة اللّه أن تكون على غير هذا الوجه الذي يقيم موازين العدل بين عباد اللّه جميعا.. مؤمنهم وكافرهم على السواء.. فالمشركون خلال هذه الأشهر الأربعة، في عافية من أمرهم، وفى حراسة من كل قهر أدبى أو مادّىّ، يحملهم على الوجه الذي يأخذونه من الإسلام والمسلمين.
وقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ} هو تحذير للمشركين، وتنبيه لهم أن يأخذوا حذرهم، وأن يقدّروا موقفهم في الرأى الذي يرونه لأنفسهم، بعد هذه الأشهر الأربعة.. وليضعوا في حسابهم هاتين الحقيقتين:
أولاهما: أن اللّه سبحانه وتعالى هو الذي يطلبهم، وأن يد اللّه لا تقصر عنهم في أي متّجه اتجهوا إليه.. {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ}.
وثانيتهما: أنّهم إذا انتهى بهم رأيهم إلى اختيار الشرك الذي هم عليه، فإنهم قد اختاروا الخزي والهوان، لأنهم حينئذ يكونون حربا على اللّه.
{وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ}.
قوله تعالى: {وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ} الأذان: الإعلام، والإظهار للأمر بصورة كليّة كاشفة.. ويوم الحج الأكبر، هو يوم عرفة، وقيل يوم النحر، وفى كلا اليومين تتم معظم أعمال الحج.. ووصف الحجّ بأنه الحج الأكبر، تعظيما له وإلفاتا إلى تلك الظاهرة الإنسانية التي تتجلى فيه، باجتماع هذه الحشود الحاشدة، التي تجمع الناس من كل أمة وقبيل.. يأتون من كل فج عميق.. فإذا احتوتهم دائرة الحرم كانوا على هيئة واحدة في ملابس الإحرام.. الأمر الذي لا تشهد العين مثله إلا في هذا الموطن! وقد أعلن هذا الأذان على الحجيج في موسم الحج، سنة تسع من الهجرة، في يوم عرفة أو يوم النحر.
وكان أبو بكر رضى اللّه عنه هو الذي ندبه الرسول، صلى اللّه عليه وسلم، أميرا على الناس يومئذ ليقيم لهم حجّهم.
وكان موسم الحج هذا العام، مجتمعا للمسلمين والمشركين، حيث يقيم المؤمنون حجّهم على الوجه الذي بيّنه الإسلام لهم، على حين يقيم المشركون حجّهم على ما كانوا عليه في الجاهلية، وكان من عادتهم أن يطوفوا بالبيت عراة.. وقد آثر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ألا يشهد هذا المشهد الكريه من المشركين، فأقام أبا بكر مقامه في هذا الموسم، وكان ذلك في السنة التاسعة من الهجرة.. فلما كانت السنة العاشرة وطهّر اللّه المسجد الحرام من الشرك والمشركين، حجّ النبىّ حجة الوداع.
وما كاد أبو بكر ينفصل عن المدينة، في طريقه إلى البلد الحرام، حتى تلقى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من ربّه هذه الآيات الأولى من سورة براءة.. فجعل إلى علىّ بن أبى طالب أن يؤدى عنه هذا الأمر، وأن يؤذّن به في الناس يوم الحجّ الأكبر.. فركب ناقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العضباء ولحق بأبى بكر في بعض الطريق قبل أن يدخل مكة، فقال له أبو بكر: أأمير أم مأمور؟ فقال: بل مأمور..!
فأقام أبو بكر للمسلمين حجّتهم.
وأذّن علىّ في الناس بهذا الإعلان القرآنى من سورة براءة.
والسؤال هنا:
لما ذا لم يعهد الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه، إلى أبى بكر وهو أمير الحج، أن يؤدى هذه المهمة؟
والجواب على هذا: أن ما كان بين المسلمين والمشركين من عهود، إنما كانت معقودة باسم الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه، باعتباره ممثلا للمسلمين، وهو بهذا الاعتبار لم يكن عند المشركين أكثر من رئيس قبيلة، وليس لصفة النبوة حساب عندهم في هذا الأمر، إذ لم يكونوا معترفين بنبوته، وإلّا لآمنوا به.
ومن هنا لم يكن- من وجهة نظر المشركين- من المقبول أن يتولّي نقض هذه العهود ونبذها إلى أصحابها إلا المتعاقد معهم عليها، أو من يمثله من عصبته، وذوى قرابته الأدنين، وذلك أن أهل البيت، أو القبيلة يحملون معا تبعات الالتزامات التي بينهم وبين غيرهم، وأنه إذا جنى أحدهم جناية كانت تبعتها على الجماعة كلّها.
ومن أجل هذا، فإن النبىّ صلى اللّه عليه وسلم حين تلقى من ربّه الأمر بنبذ العهود إلى المشركين، قال: {لا يبلّغ عنى إلّا أنا أو رجل من بيتي}.
فجعل ذلك إلى ابن عمّه علىّ بن أبى طالب.. وإن كان المسلمون جميعا- على اختلاف بيوتهم وقبائلهم- أهلا لأن يؤدوا هذه المهمة، ولكن عند من يعترف بنبوة النبىّ، ويعترف بالمسلمين كوحدة تدين بدين، وتجتمع على شريعة.. ولكن المشركين كانوا يتعاملون مع النبىّ كواحد من بنى هاشم، ولا ينظرون كثيرا إلى من استجاب له وتبعه من المسلمين.. ولهذا، فإنه حين يئست قريش من أن تمسك النبىّ عن القيام.. برسالته، عمدت إلى مقاطعة بنى هاشم، وفرض الحصار الاقتصادى والاجتماعى عليهم، فلا يزوجونهم ولا يتزوجون منهم، ولا يتعاملون معهم، أخذا أو إعطاء، وقد وقع بنو هاشم جميعا- مؤمنهم ومشركهم- تحت هذا الحكم الظالم، ووقفوا له جميعا جبهة واحدة في وجه قريش.
وفى قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} الواو في {ورسوله} للعطف على المصدر المؤول من الجملة السابقة: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي ورسوله برىء منهم.. فهو عطف جملة على جملة.. وذلك لتكون براءة اللّه من المشركين هى الأصل، ثم تجىء براءة رسول اللّه منهم تبعا لتلك البراءة، ثم تجىء براءة المؤمنين منهم تبعا لبراءة اللّه ورسوله.
وفى قوله تعالى: {فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ} دعوة مجدّدة من اللّه- سبحانه- إلى المشركين، أن يستجيبوا للّه وللرسول، فذلك هو الذي يحقق لهم الفوز والفلاح، ثم هو تهديد لهم بالخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة، إذا هم لم يتوبوا إلى اللّه، ويخلّصوا أنفسهم من الشرك الذي استولى عليهم.
وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} هو استثناء من الحكم العام الذي أنذر به المشركون، وهو أن العهود التي كانت بينهم وبين المسلمين لن يكون لها مفعول بعد الأربعة الأشهر التالية ليوم النحر، الذي أعلنوا فيه بنبذ العهود التي عقدوها مع المسلمين.
والمستثنون من هذا الحكم العام من المشركين، هم أولئك الذين عرف منهم المسلمون صدق نواياهم في الوفاء بالعهود التي عقدوها معهم، حيث لم تظهر منهم بادرة تدلّ على خيانة، أو ممالأة عدوّ، أو تحريضه على المؤمنين- فهؤلاء قد وفوا بالعهود، فينبغى أن يفى معهم المسلمون بعهودهم، إذ المسلمون أولى بهذا منهم، وما نقض المسلمون العهود التي آذنهم اللّه بنقضها مع المشركين إلّا لما هو ظاهر من حالهم الذي يكشف عن نيات سيئة، تدبّر الشر، وتبيت العدوان، وتتربص بالمسلمين الدوائر.
فهؤلاء المستثنون، يجب على المسلمين الوفاء لهم بالعهود التي عقدوها معهم، إلى الآجال المضروبة لها.. فهؤلاء لهم حساب.. ولعامة المشركين حساب آخر.
وقوله سبحانه: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} هو بيان لموقف المسلمين من المشركين، بعد انقضاء الأربعة الأشهر التي حرّم على المسلمين فيها قتال المشركين، وتبدأ من العاشر من ذى الحجة إلى العشرين من ربيع الآخر.. حيث أعطى المشركون فيها أمانا مطلقا، حتى تتاح لهم الفرصة لاختيار الموقف الذي يقفونه من المسلمين بعد انقضاء هذه المدة، التي وقتتها الآية بأربعة أشهر في قوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}.
والأشهر الحرم هنا، هى غير الأشهر الحرم المعروفة، وهى ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب.. والتي أشار إليها اللّه سبحانه وتعالى بقوله {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}.
فهذه الأشهر الحرم يحرم فيها القتال بدءا به، ولا يحرم فيها لدفع العدوان.. وهذا الحكم هو لها في جميع الأزمان.. أما الأشهر الحرم التي ذكرت هنا فإن حرمة ما حرّم منها هو خاص بهذا العام، أي السنة التاسعة، وأول العاشرة من الهجرة.
والمشركون الذين أمر المسلمون بقتالهم بعد انسلاخ هذه الأشهر الأربعة هم مطلق المشركين، ما عدا الذين أمهلوا إلى أن تتم المدة المتعاهد معهم عليها.
وقوله تعالى: {وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} دعوة للمسلمين بالجد في طلب المشركين، وأخذهم بكل قوّة، وملاحقتهم في كل مكان، حتى لا يكون لهم مهرب.. وفى هذا إرهاص بما سيحلّ بالمشركين من بلاء واقع، لا وجه لهم من الإفلات منه.. بعد أن ينتهى الأجل المضروب لهم، وذلك من شأنه أن يلقى الرّعب في قلوب المشركين، وأن يفتح للكثير منهم طريقا إلى الإسلام، حيث يجد العافية، والأمن والسلام.
وفى قوله تعالى: {فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} هو تحريض للمشركين على المبادرة بالتوبة، وخلع نير الشرك من رقابهم، وذلك قبل أن يقعوا ليد المسلمين، وتصل إليهم سيوفهم، فإنهم إن وصلوا إلى تلك الحال، فلن تكون لهم نجاة، ولن تقبل منهم توبة، شأنهم في هذا شأن الذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فسادا، وفيهم يقول اللّه سبحانه وتعالى: {إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [33- 34: المائدة] وفى قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} دعوة للمسلمين إلى التسامح والرفق، وأن يقبلوا هؤلاء الذين جاءوهم مسلمين، وأن يفسحوا لهم في قلوبهم مكانا مع إخوانهم المسلمين، وأن يغفروا لهم ما كان منهم من إساءات، فيما أصابوهم بهم في أموالهم وأنفسهم، فإن اللّه غفور رحيم، ينال المؤمنين برحمته، ومغفرته، فليأخذوا هم المسيئين إليهم برحمتهم ومغفرتهم.. ثم هو إغراء للمشركين أن يدخلوا في دين اللّه، فهذه رحمة اللّه ومغفرته مبسوطة لهم، وهؤلاء هم المؤمنون يلقونهم بالرحمة والمغفرة لما كان منهم، في عدوانهم عليهم، وكيدهم لهم.. إنها فرصة مسعدة، والسعيد من أخذ بخطه منها.


{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)}.
التفسير:
تمضى الآيات بعد هذا في تقرير الأحكام التي تنتظم الصّلات التي بين المؤمنين وأعدائهم من المشركين والكافرين.
فبعد أن قضى اللّه بنقض العهود التي بين المشركين والمسلمين، وإمهالهم أربعة أشهر يتدبّرون فيها أمرهم، استثنى اللّه سبحانه وتعالى من هؤلاء المشركين من عرف المسلمون منهم الوفاء بالعهد، فأبقى على عهودهم إلى انتهاء أجلها المضروب لها، ثم أمر اللّه المسلمين بأن يأخذوا المشركين حيث وجدوهم، وأن يقتلوهم حيث ظفروا بهم، وذلك مع استثناء من بقي لهم مع المسلمين عهد.
وهنا في هذه الآيات استكمال لهذه الأحكام.
ففى قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} بيان لحكم من جاء من المشركين مستجيرا بالنبيّ، طالبا الأمان منه.
ففى غير ميدان القتال، وفى حال السّلم، قد يرى بعض المشركين أن يلتقى بالنبيّ، ليعرف الدعوة الإسلامية، وليعرض على عقله وقلبه ما يدعو إليه الإسلام، وذلك حقّ له، يجب ألّا يحرم منه.. ليكون إيمانه على علم، وفى غير إكراه.
ولهذا أمر اللّه سبحانه النبىّ الكريم أن يستجيب لدعوة من يدعوه إلى طلب الأمان في جواره، وذلك حتى يسمع كلام اللّه، أي حتى يسمع ما نزل على النبي من قرآن يقرر أصول الإسلام، وأحكام شريعته، ثم إن لهذا المستأمن أن يطلب النّظرة إلى الوقت الذي يسمح له بالنظر والتدبر فيما سمع من كلام اللّه، وأن يجاب إلى هذا، حتى ينقطع عذره، وتقوم عليه الحجة.
فإن وجد فيما سمع ووعى من كلام اللّه ما يدعوه إلى الإيمان، ثم آمن.
فهو في المؤمنين، له ما لهم وعليه ما عليهم.
وإن أصمّ اللّه سمعه، وأعمى بصره، وحجب بصيرته، فلم تنفذ شعاعات الهدى إلى قلبه، وآثر الضلال على الإيمان، واستحبّ العمى على الهدى، فإن له ما اختار.. لا سلطان لأحد عليه، ولا سبيل لأحد أن يناله بضرّ أو أذى، فهو الآن في ذمة النبىّ، وذمة المؤمنين جميعا.. وعلى النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- أن يضمن سلامته، وأن يكفل له الأمن والطمأنينة ما دام في رحاب المسلمين.. ثم إن أراد النبىّ، أو رغب هو في أن يلحق بأهله، أجيب إلى هذا، ووكل به النبىّ من المسلمين من يقوم على حراسته، وسلامته، حتى يبلغ مأمنه، أي المكان الذي يجد فيه الأمن بين أهله وعشيرته.
ألا فلتخرس ألسنة الذين يقولون إن الإسلام دين قام على السيف وإراقة الدماء!! فهذا صنيع الإسلام مع أعدائه حين لا يكون منهم حرب معه، أو عدوان عليه.. إنه سلم خالص، وإنسانيّة في أرفع منازلها.. فلا إكراه في الدين، ولا عدوان على من يختلفون مع المسلمين اختلافا قائما على البحث والنظر.
وليس في الدعوات دعوة تحترم العقل، وتمنحه حقه المطلق في النظر والاختيار- كدعوة الإسلام، التي لا تفرض سلطان الحق الذي بين يديها، على أي ذى عقل، ولو كان عقلا جهولا محمّقا! ذلك أن الإسلام ليس من همّه امتداد ظلّه على مساحات ممتدة من الأرض، ولا التسلط على أعداد كثيرة من الناس، شأن الغزاة والفاتحين، فمثل هذا لا يقيم في القلوب دينا، ولا يثبت في الأرض عقيدة.. وإنما الذي يهمّ الإسلام أولا وأخيرا، هو أن يجد العقول التي تتقبّل دعوته، والنفوس التي تستجيب لها، والقلوب التي تعمر بها.. ولا عليه بعد هذا أن يقلّ أتباعه أو يكثروا، وأن تتسع دولته أو تضيق.. إذ ليست دعوة الإسلام لحساب فرد أو جماعة، وإنما هى خير ممدود للناس، فمن طعم منه، واستطابه، فذلك له، ومن أعرض عنه وتحاشى الأخذ منه فليس لأحد عليه سلطان:
{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ}.
وفى قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} إشارة داعية إلى الرفق بهؤلاء المشركين الذين جاءوا ليعرضوا الإسلام على عقولهم، فهم على جهل وجفاء، وفى ظلام جاهلية طال عليهم الأمد فيها.. وإذ كان هذا شأنهم، فإن من شأن من يتولّى الاستشفاء لهم من دائهم، أن يترفق بهم، حين يراهم يعشون عن النور، ويعمون على الهدى.
وفى قوله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}.
هو عرض للوجه العام للمشركين، بعد هذا العرض لأفراد منهم، استجابوا للرسول، واستأمنوه، ليروا ما بين يديه من الدين الذي يدعوا إليه.
وفى هذا العرض ينكشف ما عليه المشركون عامة، من غدر وخيانة، وتربّص بالمسلمين.. فهؤلاء لا عهد لهم ولا ذمة، عند المسلمين.. باستثناء أولئك الذين أمضى المسلمون عهودهم معهم إلى المدة المتفق عليها فيما بينهم وبين هؤلاء الجماعات من المشركين، وهم الذين استثناهم اللّه سبحانه وتعالى في قوله سبحانه: {إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ..}.
فهؤلاء المشركون سيظل المسلمون على عهدهم معهم، ما داموا هم على الوفاء بعهدهم، فإن بدا منهم ما يستشعر منه المسلمون غدرا أو خيانة، نقضوا هذا العهد، وقطعوا تلك المدة التي تضمنها العهد.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}.
وفى قوله تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ} تحذير للمؤمنين من أن يأمنوا جانب المشركين أيّا كانوا، حتى هؤلاء الذين لم يظهر للمسلمين منهم غدر أو خيانة.. فذلك إن يكن وجه مقبول من وجوههم، فإن وراء هذا الوجه وجوها كثيرة منكرة، وإنه ليس بالمستبعد منهم أن يغدروا وأن يخونوا في أية فرصة تسنح لهم.. وإنه لو أمكنتهم الفرصة في المسلمين لم يرقبوا فيهم إلّا ولا ذمة.
و{الإلّ} القرابة.. كأنها مشتقة من الآل التي بمعنى الأهل والأقارب.
{والذمة}: العهد الذي يصير به كل من المتعاهدين في ذمة الآخر، أي في ذمامه وحوطه، بحيث لا يجىء إليه منه أذّى.
والاستفهام في قوله تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} استبعاد من أن يبقى المشركون على عهد بينهم وبين المسلمين.. وإن كانت بينهم وبين المشركين قرابة نسب أو عهود موثقة، والمستفهم عنده هنا محذوف، لدلالة الحال عليه، وهو: كيف يحفظون لكم عهدا، وهم عداوة تمتلىء بها صدورهم بغضة وشنانا لكم، حيث لا يجدون شفاءا لما في صدورهم من هذا الداء إلا أن يأخذوكم بالبأساء والضرّاء؟... فهم- والحال كذلك- لا يمسكون معكم بعهد إلا ربّما تمكنهم الفرصة فيكم، وإذن فاحذروهم، وكونوا منهم دائما على توقع الغدر بالعهد، والتحفز للوثوب عليكم.
وفى قوله تعالى: {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ}.
هو كشف للمؤمنين عمّا في نفوس المشركين من عداوة وبغضاء لهم، وأنهم إذا ألانوا الكلام مع المؤمنين، وأسمعوهم طيّب الكلم ومعسول القول، فإن ما في صدورهم على خلاف هذا.. {وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ} أي خارجون عن الطبيعة السليمة للإنسان السليم. ومع هذا فإن قليلا منهم فبه بقيّة من خير، يمكن أن تكون طريقا هاديا له إلى الحق، والإيمان، إذا هو عرف كيف ينتفع بها، ولم يذهب بها، مذهب الضياع والفساد.
وقوله تعالى: {اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}.
إشارة إلى أن هؤلاء الكافرين رغبوا عن آيات اللّه، وأعرضوا عن الهدى الذي تحمله إلى من يتصل بها، ورضوا بما هم فيه من حياة لاهية هازلة.
{يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ}.
لقد صدّوا عن سبيل اللّه، فساء عملهم، وضل سعيهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
وليس في الأمر بيع ولا شراء.. ولكن لما كانت آيات اللّه في معرض النظر لكل إنسان، وكان من شأن هؤلاء المشركين أن يؤمنوا بها، وأن يجعلوها بضاعتهم التي يتعاملون بها، وزادهم الذي ينزودون منه، فهم- والأمر كذلك- في حكم من أخذوا آيات اللّه، وإذ لم ينتفعوا بها، ولم يأخذوا بحظهم منها، فكأنهم باعوها واشتروا بها هذه الحياة التي يحيونها، وهذا المتاع القليل الذي يعيشون فيه! {أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ}.
قوله تعالى: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ}.
هو توكيد لبيان ما يحمل المشركون للمسلمين من عداوة، وما يرصدون لهم من كيد، وما يدبّرون من بغى وعدوان.. وذلك أمر يجب أن يعلمه المسلمون، وأن يستيقنوه، وأن يأخذوا حذرهم منه، وإلّا استحوذ عليهم المشركون، وفتنوهم في دينهم، وأوقعوهم في بلاء عظيم.
قوله تعالى: {فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} في هذا ما يكشف عن سماحة الإسلام، وإنسانيته، وأنه ليس لحساب فرد، أو جماعة، أو أمة، وإنما هو حظ متاح للناس جميعا.. وأن هذه الحرب التي تدور بين أتباعه وأعدائه، والتي يحتمل فيها هؤلاء الأتباع ما يحتملون من ابتلاء في أموالهم وأنفسهم- هذه الحرب ليست لحساب أحد، وإنما هى من أجل هذا الدين، ولحساب هذا الدين.. ومن هنا كان مطلب المسلمين المجاهدين أولا وقبل كل شىء، هو هداية الناس، وابتغاء الخير لهم.. فإذا اهتدى الضال، وآمن المشرك، ونزع الكافر عن كفره- كان ذلك هو الجزاء الحسن الذي يسعد به المسلم، والغنيمة العظيمة التي يجد فيها العزاء لكل ما أصيب به، في نفسه، أو ماله.
ولهذا، فإن هؤلاء المحاربين للمسلمين، والمعتدين على الإسلام، هم على تلك الصفة، والمسلمون على موقفهم العدائى معهم، ما داموا على حالهم تلك، فإذا هم تحولوا عن موقفهم هذا، ودخلوا في دين اللّه- انقلبوا في الحال أولياء للمؤمنين، وإخوانا لهم، قد ذهب إيمانهم باللّه بكل ما كان لهم في نفوس المؤمنين من بغضة وعداوة.
وفى قوله تعالى: {وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} دعوة للمشركين أن يتدبروا أمرهم فيما بينهم وبين هذا الدين الذي يدعون إليه، وإنهم لو نظروا بقلوب سليمة، وعقول تنشد الحق، وتطلب الهدى، لعلموا أن دعوة الإسلام لا تقوم على عصبية قبليّة، أو طائفية، أو من أجل جاه أو سلطان، وأنه لو كان هذا شأنها لما كان دخولهم الإيمان شفيعا يشفع لهم عند المسلمين، ويعفى على ما اقترفوه في حقهم من آثام، ولما قبل منهم المسلمون إلا الاستسلام لهم، واستباحة دمائهم وأموالهم، شأن الحروب التي تقع بين الناس والناس، من أجل أمور الدنيا المتنازع عليها بينهم أبدا.
قوله تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} هذا هو الوجه الآخر الذي يلقى به المؤمنون، المتمردين من المشركين، الناكثين للعهد، وهو أنه إذا لم يستقم المشركون على الوفاء بالعهد، ونكثوه، أو همّوا بنكثه، وأطلقوا ألسنتهم بقالة السوء في الإسلام والمسلمين، أو مدّوا أيديهم إلى المسلمين بأذى- فعندئذ ينبغى على المسلمين أن يحلّوا أنفسهم من أي عقد عقدوه مع هؤلاء المشركين، وأن يضربوهم بيد باطشة قاهرة، لعلّ في هذا ما يقطع ألسنتهم وأيديهم المتطاولة على الدين، ويقصّر من خطوهم إلى التمادي في الشرك والضلال.
وفى العدول عن الضمير إلى الظاهر في قوله تعالى: {فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} بدلا من أن يجىء النظم {فقاتلوهم} في هذا ما يكشف عن وجه هؤلاء المشركين، ذلك الوجه، الذي لا يستحق غير الخزي والهوان.. إنه وجه يطلّ منه الكفر في أنكر صورة وأبشعها.. وإنه، وجه تنعقد على جبينه أمارة الزعامة، والإمامة، لدولة الكفر والضلال.
قوله تعالى: {أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} هو تحريض للمؤمنين على الجدّ في قتال المشركين، وفى قتل كل المشاعر التي تدعو إلى مهادنتهم، والتراخي في تأديبهم والانتقام منهم.. فإذا وقع في نفس مسلم شيء من هذا المشاعر، فليذكر ما صنع هؤلاء المشركون به وبالنبيّ الكريم، وبجماعة المسلمين عامة، وما كان منهم من كيد وبغى وعدوان، على دين اللّه، وعلى المؤمنين باللّه.
فهؤلاء المشركون، الذين نكثوا أيمانهم، ونقضوا عهودهم- لم يكونوا في يوم ما على حال مستقيمة مع المسلمين.. وحسبهم أن كان منهم تلك المواجهة المنكرة التي واجهوا بها الرسول في أول دعوته، وكيف آذوه وآذوا كل من استجاب له، حتى همّوا بإخراجه، وتآمروا على اغتياله، لو لا أن ردّ اللّه كيدهم، وأخرج النبىّ سليما معافى من بينهم.
ثم هاهم أولاء قد نكثوا أيمانهم، وتحللوا من كل عقد عقدوه مع المسلمين.
فكيف يرعى المسلم لهم عهدا..؟ وكيف تعطفه عليهم عاطفة؟
وفى التعبير بلفظ {همّوا بإخراج الرسول} إشارة إلى واقع أمرهم مع الرسول فعلا، فهم لم يخرجوه، بل كانوا يعملون على أن يمسكوه بينهم، ويحولوا بينه وبين أن يلقى الناس، وأن تلتقى دعوته بالناس- ولكن لما كان هذا الموقف المتعنت الذي وقفوه منه- صلوات اللّه وسلامه عليه- سببا في أن يخرج من بلده مهاجرا، فقد حسن أن يضاف إليهم إخراجه، نيّة لا عملا.. وفى التعبير بكلمة {همّوا} التي تفيد معنى النيّة المنعقدة على هذا الأمر- في هذا ما يكشف عن مكنون ضمائرهم، من كراهية للنبىّ، واستثقال لمقامه فيهم، وأنهم يهمّون بإخراجه، ولكن يرون أن إخراجه أشدّ بلاء عليهم من إمساكه معهم.
فهم يمسكون بالنبيّ على مضض وتكرّه.
ومن فعلات المشركين بالمؤمنين أنهم هم الذين بدءوا بالعدوان، وجاءوا إلى بدر بجيوشهم، يمنّون أنفسهم بالقضاء عليهم، والتنكيل بهم.
فهذه كلها أمور إذا ذكرها المسلمون أثارت حفيظتهم على المشركين، وأوقدت عزائمهم لجهادهم، وأخذهم بالبأساء والضراء، حتى يستجيبوا للّه وللرسول.
وفى تنكير المشركين في قوله تعالى: {أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً} تحقير لهؤلاء القوم، وتعرية لهم من كل صفة، إلا تلك الصفات التي دمغهم اللّه سبحانه وتعالى بها، وهى ما أشار إليه قوله تعالى: {نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ. وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ} وقوله تعالى: {قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
هو إغراء للمسلمين بلقاء المشركين وقتالهم، حتى يفيئوا إلى أمر اللّه.
فبعد أن أثار اللّه حميّة المسلمين، وملأ قلوبهم موجدة وسخطا على الكافرين- جاء وعده سبحانه وتعالى للمسلمين بالنصر على عدوّهم، وأنه سبحانه سيعذب هؤلاء المشركين بأيدى المؤمنين، بما يصيبهم في أنفسهم من قتل وأسر، وما يصيبهم في أموالهم، التي تقع غنيمة لأيدى المؤمنين في ميدان القتال، أو في فداء الأسرى منهم.. وليس هذا فحسب، فإن الذي لهم في العرب من مكان الرياسة والسيادة ستذهب به تلك الهزيمة المنكرة التي سيلقونها، ويلقون معها الخزي والعار.
وفى قوله تعالى: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} انتقال من الخطاب إلى الغيبة، وفى ذلك تنويه بشأن المؤمنين، ورفع لقدرهم، بالنأى بهم عن هذا الموطن الذي ينزل فيه العذاب على المشركين، ويقع عليهم الخزي والهوان.
وفى العدول عن تعريف القوم إلى تنكيرهم، تفخيم لهؤلاء القوم، وأنهم ليسوا قوما بأعيانهم، وإنما هم المؤمنين حيث كانوا، سواء من قاتل هؤلاء المشركين أو من لم يقاتل، وسواء من شهد هذه الأحداث وعاصرها أو من جاء بعدها، حيث يرى المؤمن في حديث التاريخ عنها ما نقرّ به عينه، وينشرح به صدره، حين يحدّثه التاريخ عن هزيمة الباطل وانتصار الحق، وامتداد ظلّ الإسلام، وانكماش دولة الكفر والضلال.
وفى قوله تعالى: {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ} وفى عطف هذا الفعل على الأفعال قبله في قوله تعالى: {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ}.
إشارة إلى أن من تقدّر له التوبة من هؤلاء المشركين ويدخل في دين اللّه يجد نفسه مشاركا للمؤمنين فيما آتاهم اللّه من فضله، ينصرهم وإعزازهم، وشفاء ما بصدورهم.. وبهذا يتحول في لحظة واحدة من تلك الحال التي يلبس فيها لباس الهزيمة والخزي والعار، إلى الجبهة الأخرى، فيشاركها أفراحها ومسرّاتها، ويقاسمها ما بين أيديها من نصر، وما في قلوبها من رضى وحبور، وفى هذا تحريض قوىّ للمشركين على ان يستجيبوا للّه وللرسول، وأن يدخلوا في دين اللّه، ويسلموا له مع المسلمين.. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} يمضى حكمه بعلم العليم، وحكمة الحكيم، فما وقع شيء في ملكه إلا على هذا التقدير الذي يقدّره العلم، وتحكمه الحكمة.


{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16) ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ} هو تنبيه للمؤمنين إلى أن الإيمان ليس مجرد عقيدة يعتقدها المؤمن، في اللّه وكتبه ورسله، ثم يعيش بهذه المعاني مضمرة في كيانه، كما تضمر الحبة في باطن الأرض، لا يصيبها وابل أو طلّ، ولا يحركها شوق إلى كشف وجهها، ومصافجة أضواء الوجود.. وإنما الإيمان هو وصل هذه الحقائق بالحياة، وصوغها في صورة سلوك وأعمال، من عبادات ومعاملات، ومن جهاد في سبيل اللّه، وحماية لراية الإيمان أن تسقطها يد البغاة المعتدين، من أهل الشرك والضلال.
فللإيمان أعباؤه وتكاليفه، وفى الوفاء بهذه الأعباء وتلك التكاليف، تتحد مواقف المؤمنين، وتكون منازلهم ودرجاتهم.
وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا} استبعاد لهذا الشعور الذي يداخل بعض المؤمنين من أن يكون حسبهم من إيمانهم ما تنطوى عليه صدورهم من حقائقه.. وكلّا فإنهم مبتلون بما يكشف عن معدن هذا الإيمان الذي في قلوبهم.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ} [1- 3: العنكبوت].
ففى الإيمان شريعة، وفى الشريعة أوامر ونواه، والمؤمن مطالب بأن يمتثل الأوامر ويأتيها، ويتجنب النواهي ويحذر التلبس بها.. إن الإيمان عقيدة وعمل.. وإنه لا معتبر لعقيدة إذا لم يزكّها العمل، ويحقق المعاني المضمرة فيها.
وفى وقوله سبحانه: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ} ما يكشف عن تبعات المؤمنين. أي أحسبتم أيها المؤمنون أن تتركوا هكذا من غير ابتلاء واختبار، حتى يكون ذلك موضع علم واقع منكم، من جهاد في سبيل اللّه وابتلاء في أموالكم وأنفسكم.. بمعنى أنه لم يظهر منهم بعد هذا العمل، ولم يدخلوا في تلك التجربة، ويصبروا على ما يصيبهم منها.. أما علم اللّه سبحانه وتعالى فهو علم شامل لكل ما وقع وما لم يقع.. فالمراد بعلم اللّه هنا، هو علمه الواقع على حال المؤمنين في هذا الوقت الذي يخاطبون فيه بهذا الخطاب.
وفى قوله تعالى: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ}.
إشارة إلى أن علم اللّه وإن كان محيطا بكل شىء، قبل أن يقع.. من المكلفين إلا أن المكلفين لا يحاسبون على ما يقع منهم إلا بعد أن يقع.. وبهذا يحاسب المكلّف على ما وقع منه فعلا، وصار علما واقعا له، بعد أن كان في علم اللّه.
وقوله تعالى: {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} معطوف على قوله تعالى: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ}.
والوليجة: الملجأ، والمعتمد، الذي يلجأ إليه الإنسان، ويتخذ منه جنّة ووقاية له.. والمعنى، أن المطلوب من المؤمن هو الجهاد في سبيل اللّه، وموالاة اللّه ورسوله والمؤمنين، والاعتماد على كفاية اللّه ورسوله والمؤمنين له، دون أن يقوم بينه وبين المشركين ولاء، فلا يدخل معهم في خلف، ولا يلج لهم أمرا يلتمس منه خيرا لنفسه، أو سلامة مما يتوقّع من بلاء.. فإذا لم يقع منه هذا، لم يكن أهلا لأن يدخل الجنّة التي وعدها اللّه المتقين من عباده.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ} تحذير للمؤمنين الذين في صدورهم شيء من هذه المشاعر، التي تقيم بينهم وبين المشركين صلة على حساب دينهم، أو على حساب الجماعة الإسلامية، وأمنها وسلامتها.
قوله تعالى: {ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ} هو بيان لبعض الحكمة فيما أمر اللّه به المسلمين في شأن المشركين، وقتالهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم.. كما جاء ذلك في أول السورة.. ثم هو إيذان لما سيأتى بعد ذلك من أمر في ألا يقرب المشركون المسجد الحرام بعد عامهم الذي أنذروا فيه، ببراءة اللّه ورسوله منهم، وفى هذا يقول اللّه تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا}.
وهو العام التاسع من الهجرة، الذي شاء اللّه سبحانه لرسوله الكريم ألا يحج هذا العام الذي حج فيه المشركون، ثم حج حجّة الوداع في العام الثاني، وقد طهر البيت من هذا الرجس.
فالمشركون بما في قلوبهم من كفر، ليسوا أهلا لأن يدخلوا بيوت اللّه ويعمروها.. إذ كيف يكفرون باللّه، ثم يعمرون مساجده؟
وقوله تعالى: {شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} هو حال من أحوالهم التي يدخلون بها المساجد، وهى أنهم يدخلونها وهم كافرون باللّه.
وشهادتهم على أنفسهم ينطق بها حالهم وأفعالهم، وإن لم تنطق بها ألسنتهم، فهم يدخلون بيت اللّه، ثم يسجدون فيه لغير اللّه، مما يعبدون من أوثان وأصنام.. وهذا العمل منهم أبلغ شهادة عليهم بالكفر والضلال.. {أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ} أي بطل كل عمل لهم، وانقلب شرّا ووبالا عليهم {وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ} فتلك هى ثمرة ما كانوا يعملون.. النار، والخلود في النار.
قوله تعالى: {إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} تلك هى حقيقة الذين يعمرون مساجد اللّه، وهذه هى صفاتهم التي تؤهلهم لأن يكونوا من أهلها وعمّارها.. أن يكونوا مؤمنين باللّه واليوم الآخر، وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وألا يكون في قلوبهم خوف إلا من اللّه، ولا رجاء إلا فيه، ولا متعلّق إلّا به.. فهؤلاء في معرض الهداية والتوفيق، وعلى طريق الاستقامة والتقوى. بهم تعمر بيوت اللّه، يذكر اللّه فيها، ذكرا خالصا من لزيغ، مبرأ من الشرك.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8